كاتب وأكاديمي تونسي
هل أن الرواية تتحقق جودتها ومقبوليتها وصرْفها لميل القارئ عبر ما تنتقيه من مواضيع؟ هل أن فضل الرواية الآن كامنٌ في «تعرية المجتمع» والدخول في مسايرة الرؤى السائدة من مبادئ النسوية والعنصرية والأقليات والإثنيات؟ هل أن الرواية عدمت بُعدها التخييلي لتتحول إلى رواية الذات الكاتبة، تحكي قصتها في هذا الوجود، وتعترف بما حصل لها فيه؟ ذاك جانب مما ورد في تحديد معالم رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب الليبي محمد النعاس، إذ رأت لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر أن علة نبوغها وتميزها كامنة في استعادتها «تجربة فردية في درب من الاعترافات (لا أعرف كيف صُنفت على أنها اعترافات!) التي نظم السرد المتقن المشوق فوضى تفاصيلها، ليقدم نقدا عميقا للتصورات السائدة عن الرجولة والأنوثة، وتقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وتأثيرهما النفسي والاجتماعي».. وبقدر ما يحتمل هذا القرار الجدل وتقليب نظر، فإن الرواية كانت مقبولة القراءة محققة لحد مهم من التأصل السردي في تخير مواضيعها ومسار سردها وخلق شخصياتها وتوفير الأمكنة المولدة للسرد، غير أنها سارت – في ظني نقيض مسار قرار لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية.
أربعة محاور يُمكن أن تجذب المتمعن في الرواية، وهي الشخصيات المتأسسة بوعي وإدراك، الحاملة لمعان، المؤدية إلى فتح مسالك في السرد تُخرجه عن الرتابة التي حلت بالرواية في بعض مواطنها. المكان وحسن إجرائه والعمل على انتقائه بعناية يُمكن أن تُشكل تناسقا مع كون الشخصيات والأحداث. وسائط السرد في بعض المواطن، خاصة منها اعتماد لازمة في السلوك الزمني تقوم على التناوب في الحكاية بين زمنين في كل فصل، وأخيرا الذات الراوية في حسن إدارتها لفضاء الرواية وتوجهها إلى التوفق في تعهدها بالرواية وتحققها شخصية. وهذه المحاور هي المعالم الكبرى التي اختصت بها الرواية، في هيمنة جلية لبناء شخصية مركزية ضعيفة متآكلة تدعو إلى النُفرة منها في تكونها الروائي المتعاود على تغاير الأحداث.
تنحو رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» منحى فنيا عالما عارفا، لعرض مضمون يمكن أن يكون عاديا في تشابكه وتشاركه. ولا أظن أن الموضوع مهما تفرد واختلف – على أن موضوع الرواية ليس متفردا- يُمكن أن يضمن سلامة القراءة، وإنما هو القص ووسائطه وغرائبه، وهو الأمر الذي حاول الكاتب محمد النعاس التوفق فيه إلى حد ما.
قضايا الجندر في الرواية عارضٌ من عوارضها، لكني أشك في أن الكاتب قد وضع المرأة في موضع المقهور أو المظلوم، تحت ظلم مجتمع مشحون بعقد الذكورة، وإنما بانت المرأة خادعة مخادعة، ظالمة، مهيمنة، من خلال صورة الزوجة التي تكيل لزوجها أشنع النعوت المؤكدة لخنوثته، ومن خلال المدام التي كادت لاستدراج ميلاد. القضية الأساس في الرواية هي قضية الذات الإنسانية في ما تريد وفي ما يُراد لها أن تكون، هي قضية القصة إذ تتهيأ متعة تتبعٍ وانسياقٍ وراء أحداثها، وهو الأمر الذي تحقق في أجزاء من الرواية، وتعثر في أجزاء أخرى.
المكان مُولد الحكايات، وعلة تنويعها لإخراجها من نسق التعاود الممل أحيانا في بيان سماتٍ لشخصيات أصبحت مألوفة في عالم الرواية، المخبز- المعسكر- دار غزالة – بيت العائلة – البراكة – المطبخ، كلها أماكن تفردت فصولا وتداخلت حكاية، لكن الأهم أن المكان إذ يُشكل مسرح أحداث يُولد شخصياته التي تنقطع ولا تخبو بعد انتهاء فصل المكان، المخبز هو أصل الحكاية ومنتهاها، ارتبطت فيه الشخصية الحاكية بالأب والعم وعُمال المخبز الأسطى اخميس التونسي والجزائريان مسعود والباهي، الذين يظهرون في مناسبات مختلفة من أحداث الرواية، المطبخ هو المكان الختام، وهو وجه آخر من المخبز، فيه تظهر سلبية الشخصية من جهة، وتحقيقها لذاتها من جهة أخرى، وتداخل مشاعرها ورغباتها، وتكاثر أصوات المجتمع الفاعلة فيها والمؤثرة في اتخاذ قراراتها إلى حد ما، فيه كان التناوب في السرد بين المخبز وذكرياته ومطبخ المدام الذي تحققت فيه الشخصية عبر ممارسة فعل الخبْز وممارسة فعل الحب رد فعل على إمكان خيانة الزوجة التي ظل وفيا لجسدها ولحبها، معطلا هيجانه الجنسي في سبيلها، المعسكر مكان آخر لفشل الذات وعدم قدرتها على التأقلم مع حياة الشدة، وتنبع من المكان شخصيات أهمها فعلا وأثرا شخصية، المادونا الشخصية العسكرية التي رأت «ميلاد» في صيغته الرخوة، تنبعث من المكان أحداث أخرى، غير أن الراوي يظل أسير الذكريات عبر آلية الاسترجاع في تناوب الحكاية، إذ يُناوبُ بين حكاية المعسكر واسترجاع أو استباق المواضيع المتكررة في صلته بأبيه وبالمخبز وبالعبسي وبزينب وبالمدام.
الرواية لا علاقة لها بقضايا المرأة ولا بمفاهيم الرجولة السائدة، وإنما هي قائمة على شخصية رخوة، لا رؤية لها ولا موقف، شخصية تُرسخ موقفا في الرواية مفاده أن أعمال البيت من شؤون المرأة، وأن الشخصية عندما تقوم بذلك برغبة أو برهبة تسعى إلى كسب ود المرأة، هي ذات العقلية الذكورية التي ترى حدودا للمرأة في مسار أعمالها وحدودا للرجل.
مقالات ذات صلة
فراس حج محمد|علامات الترقيم وفوضى الاستخدام
السفير منجد صالح | في مطعم اسكيدنيا تجد لطافة الدنيا
كتاب المرأة الجزائریة في الثورة التحریریة (حقائق وشھادات) للأدیبة عائشة بنور
السفير منجد صالح | جاجة حفرت على راسها عفرت
إبرهيم موعد | جزيرة همام.. واقع يصنعه الخيال
شام كيلاني | سوريتي